فَصـل
وهذا النزاع في قوله : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، هل هو خطاب لجنس الكفار ،كما قاله الأكثرون؟ أو لمن علم أنه يموت كافرًا، كما قاله بعضهم؟ يتعلق بمسمى [الكافر] ومسمى [المؤمن].
/ فطائفة تقول: هذا إنما يتناول من وافي القيامة بالإيمان. فاسم المؤمن -عندهم- إنما هو لمن مات مؤمنًا. فأما من آمن ثم ارتد فذاك ليس عندهم بإيمان.
وهذا اختيار الأشعري، وطائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم. وهكذا يقال: الكافر من مات كافرًا.
وهؤلاء يقولون: إن حب الله وبغضه، ورضاه وسخطه، وولايته وعداوته، إنما يتعلق بالموافاة فقط. فالله يحب من علم أنه يموت مؤمنًا. ويرضى عنه ويواليه بحب قديم وموالاة قديمة. ويقولون: إن عمر حال كفره كان وليًا لله.
وهذا القول معروف عن ابن كُلاب ومن تبعه، كالأشعرى وغيره.
وأكثر الطوائف يخالفونه في هذا، فيقولون: بل قد يكون الرجل عدوًا لله ثم يصير وليًا لله، ويكون الله يبغضه ثم يحبه. وهذ مذهب الفقهاء والعامة. وهو قول المعتزلة، والكرامية، والحنفية قاطبة، وقدماء المالكية، والشافعية، والحنبلية.
وعلى هـذا يـدل القـرآن، كقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران:31]، {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ} [النساء: 137]، فوصفهم بكفر بعد إيمان، وإيمان بعد كفر. وأخبر عن الذين كفروا أنهم كفار، وأنهم إن انتهوا يغفر لهم ما قد سلف. وقال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمًْ} [الزخرف: 55]، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] .
وفي الصحيحين في حديث الشفاعة: تقول الأنبياء: (إن ربي قد غضب غضبًا لم يغضب قبله مثله. ولن يغضب بعده مثله).
وفي دعاء الحجاج عند الملتزم عن ابن عباس وغيره: [فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن فارض عني]. وبعضهم حذف: [فارض عني]، فظن بعض الفقهاء أنه [فمن الآن] أنه من [المن]. وهو تصحيف. وإنما هو من حروف الجر كما في تمام الكلام، وإلا فمن الآن فارض عني.
فبين أنه يزداد رضا، وأنه يرضى في وقت محدود. وشواهد هذا كثيرة. وهو مبسوط في مواضع.
فَصـل
ونظير القول في: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، القولان في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، فإن للناس في هذه الآية قولين:
/أحدهما: أنها خاصة بمن يموت كافرًا. وهذا منقول عن مقاتل، كما قال في قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}. وكذلك نقل عن الضحاك. قالا: نزلت في مشركى العرب، كأبي جهل، وأبي طالب، وأبي لهب، ممن لم يسلم. وقال الضحاك: ونزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته.
وطائفة من المفسرين لم يذكروا غير هذا القول، كالثعلبى والبغوى وابن الجوزى. قال البغوى: هذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله.
وقال ابن الجوزي: قال شيخنا على بن عبيد الله: وهذه الآية وردت بلفظ العموم والمراد بها الخصوص؛ لأنها آذنت بأن الكفار حين إنذارهم لا يؤمنون، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم. ولو كانت على ظاهرها في العموم لكان خبر الله بخلاف مخبره، فلذلك وجب نقلها إلى الخصوص.
والقول الثاني : أن الآية على مقتضاها، والمراد بها أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى الكافر ما دام كافرًا ، لا ينفعه الإنذار ولا يؤثر فيه، كما قيل مثــل ذلك في الآيات: إنها غير موجبة للإيمان. وقد جمع بينهمــا في قوله: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
/فالآيات أفقية، وأرضية، وقرآنية، وهي أدلة العلم. والإنذار يقتضى الخوف. فالآيات لمن إذا عرف الحق عمل به، فهذا تنفعه الحكمة. والإنذار لمن يعرف الحق وله هوى يصده فينذر بالعذاب الذي يدعوه إلى مخالفة هواه، وهو خوف العذاب. وهذا هو الذي يحتاج إلى الموعظة الحسنة. وآخر لا يقبل الحق فيحتاج إلى الجدل، فيجادل بالتي هي أحسن.
وقد قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ} [الأنعام: 111]، وقال: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]، {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} [يس: 11].
فالمراد أن الكافر ما دام كافرًا لا يقبل الحق سواء أنذر أم لم ينذر، ولا يؤمن ما دام كذلك؛ لأن على قلبه وسمعه وبصره موانع تصد عن الفهم والقبول. وهكذا حال من غلب عليه هواه.
هو -سبحانه- لم يقل: [إنهم لا يؤمنون]. وقيل ذلك لمن سبقت عليه الشقوة، أو حقت عليه الكلمة، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 96، 97]، فبين أن هؤلاء لا يؤمنون إلا حين لا ينفعهم إيمانهم وقت / رؤية العذاب الأليم، كإيمان فرعون المذكور قبلها. وموسى قد دعا عليه فقال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: 88، 89].
وأما إذا أطلق -سبحانه- الكفار فهو مثل قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ} الآية [الأنعام: 111]، فبين أنهم قد يؤمنوا إذا شاء.
وآية البقرة مطلقة عامة. فإنه ذكر في أول السورة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في المنافقين. فبين حال الكافر المصر على كفره أن الإنذار لا ينفعه للحجب التي على قلبه وسمعه وبصره. وليس قال: إن الله لا يهدي أحدًا من هؤلاء، فيسمع ويقبل. ولكن هو حين يكون كافرًا لا تتناوله الآية. وهذا كما يقال في الكافر الحربي:لا يجوز أن تعقد له الذمة، ولا يكون قط من أهل دار الإسلام ما دام حربيًا.
فالكفار ما داموا كفارًا هم بهذه المثابة لهم موانع تمنعهم من الإيمان كما أن للمنافقين موانع تمنعهم ما داموا كذلك، وإن أنذروا. وهذا كقوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، فهذا مثل كل كافر ما دام كافرًا.
/وذلك لا يمنع أن يكونوا قد يسمعون إذا زال الغطاء الذي على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فإنهم لا يسمعون لذلك المعني المشتق منه، وهو الكفر. فما داموا هذه حالهم فهم كذلك، ولكن تغير الحال ممكن، كما قال: {إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ}، وكما هو الواقع.
ومثل هذا يفيد أن الإنسان لا يعتقد أنه بدعائه وإنذاره وبيانه يحصل الهدى، ولو كان أكمل الناس، وأن الداعي ـ وإن كان صالحًا ناصحًا مخلصًا ـ فقد لا يستجيب المدعو؛ لا لنقص في الدعاء، لكن لفساد في المدعو.
وهذا لأن حصول المطلوب متوقف على فعل الفاعل وقبول القابل، كالسيف القاطع يؤثر بشرط قبول المحل فيه ـ لا يقطع الحجارة والحديد ونحو ذلك. والنفخ يؤثر إذا كان هناك قابل ـ لا يؤثر في الرماد.
والدعاء، والتعليم، والإرشاد. وكل ما كان من هذا الجنس، له فاعل وهو المتكلم بالعلم والهدى والنذارة، وله قابل وهو المستمع. فإذا كان المستمع قابلا حصل الإنذار التام، والتعليم التام، والهدى التام. وإن لم يكن قابلا قيل: علمته فلم يتعلم، وهديته فلم يهتد، وخاطبته فلم يصغ، ونحو ذلك.
/ فقوله في القرآن: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، هو من هذا. إنما يهتدى من يقبل الاهتداء، وهم المتقون، لا كل أحد. وليس المراد أنهم كانوا متقين قبل اهتدائهم، بل قد يكونوا كفارًا. لكن إنما يهتدى به من كان متقيًا. فمن اتقى الله اهتدى بالقرآن. والعلم والإنذار إنما يكون بما أمر به القرآن.
وهكذا قوله: {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا} [يس: 70]، الإنذار التام، فإن الحى يقبله. ولهذا قال: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70]، فهم لم يقبلوا الإنذار.
ومثله قوله: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45].
وعكسه قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] أي: كل من ضل به فهو فاسق. فهو ذم لمن يضل به، فإنه فاسق. ليس أنه كان فاسقًا قبل ذلك.
ولهذا تأولها سعد بن أبي وقاص في الخوارج، وسماهم [فاسقين]؛ لأنهم ضلوا بالقرآن. فمن ضل بالقرآن فهو فاسق.
فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [البقرة: 6]، من هذا الباب. والتقدير: من ختم على قبله وجعل على سمعه وبصره غشاوة فسواء عليك أنذرته أم لم تنذره هو لا يؤمن، أي: ما دام كذلك ، / ولكن هذا قد يزول.
وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، وحرزًا للأميين. أنت عبدى ورسولى، سميتك [المتوكل]، لست بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق. ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر. ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صما، وقلوبًا غلفًا.
وقد قال: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 6، 7]، فدل على أن بعضهم يؤمنون. ثم قال: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلًا} إلى قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} [يس: 8 ـ 11] فهذا هو الإنذار التام، وهو الإنذار الذي يقبله المنذر وينتفع به.
وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] هو أصل الإنذار، كما يقال في البليد والمشغول الذهن بأمور الدنيا والشهوات: سواء عليك أعلمته أم لم تعلمه لا يتعلم ولا يقبل الهدى، ويقال في الذكى الفارغ: إنما يتعلم مثل هذا. ثم المشغول قد يتفرغ. وقد يصلح ذهن بعد فساده. ويفسد بعد صلاحه لفساد قلبه وصلاحه.
وعلى هذا القول أكثر تفسير السلف، كما ذكره ابن إسحاق، وقد رواه ابن أبي حاتم وغيره. قال ابن إسحاق، حدثنى محمد بن أبي / محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ}، أي: بما أنزل إليك، وإن قالوا: إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك، {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، أي: إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك. فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا؟
فقد تبين أنهم لا يسمعون الإنذار؛ لكفرهم بما عندهم وما جاءهم من الحق. ومعلوم أن منهم خلقًا تابوا بعد ذلك وآمنوا.
وروى عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: آيتان في قادة الأحزاب:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}. قال: هم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28].
قلت: جعلهم قادة الأحزاب لكونهم أضلوا الأتباع فأحلوهم دار البوار. والأحزاب يوم الخندق قد أسلم عامة قادتها، وحسن إسلامهم، مثل عكْرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وأبي سفيان. وهؤلاء أسلم منهم من أسلم عام الفتح، وهم الطلقاء. ومنهم من أسلم قبل ذلك. والحزب الآخر غَطَفَان، وقد أسلموا أيضًا.
/ والآية لابد أن تتناول كفار أهل الكتاب،كما قال ابن إسحاق. فإن السورة مدنية،وإن تناولت مع ذلك المشركين.فهي تعم كل كافر.ومقاتل،والضحاك يخصاها ببعض مشركى العرب. وابن السائب يقول: هي إنما نزلت في اليهود،منهم حيى بن أخْطَب.وكذلك ما ذكره ابن إسحاق،عن ابن عباس، أنها في اليهود، وأبو العالية يقول: إنها نزلت في قادة الأحزاب.
والآية تعم هؤلاء كلهم وغيرهم، كما أن آيات المؤمنين والمنافقين كان سبب نزولها المؤمنين والمنافقين الموجودين وقت النزول، وهي تعمهم وغيرهم من المؤمنين والمنافقين إلى قيام الساعة.
والمقصود أن قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، كقوله: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} [الروم: 52، 53]، وقوله: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يونس: 42، 43].
وكل هذا فيه بيان أن مجرد دعائك وتبليغك وحرصك على هداهم ليس موجب ذلك، وإنما يحصل ذلك إذا شاء الله هداهم فشرح صدورهم للإسلام، كما قال تعالى:{إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} [النحل: 37]، ففيه تعزية لرسوله صلى الله عليه وسلم، وبينت الآية له أن تبليغك وإن لم يهتدوا به ففيه مصالح عظيمة غير ذلك.
وفيه بيان أن الهدى هدى الله. فـ {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17]، وقد قال له: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [القصص: 56]. ففيه تقرير التوحيد، وتقرير مقصود الرسالة.
وهو ـ سبحانه ـ أخبر عمن لا يؤمن فقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 96، 97]. وقال: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6]. ثم قال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 7]. فخص في هذه الآية، وفي تلك: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ}. وهم الذين حق عليهم القول، أي: حق عليهم ما قاله الله ـ سبحانه ـ وكتبه، وقدره. فجعل الموجب هو التقدير السابق، وهو قوله.
والقول وإن كان قد يكون خبرًا مجردًا بما سيكون، وقد يكون قولا يتضمن أشياء كاليمين المتضمنة للحض والمنع، فقد ذكر في مواضع تقديم اليمين، كقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13]، ونحو ذلك.
/ فهو خبر عما قاله، أو قاله وكتبه. وهو التقدير الذي يتضمن أنه قدر ما يفعله، وعلمه، وكتبه، كما تظاهرت النصوص بأن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. والقدر تضمن علمه بما سيكون، ومشيئته لوجود ما قدره وعلم أن سيخلقه.
والقول قد يكون خبرًا، وقد يكون فيه معني الطلب ـ الحض والمنع ـ بالقسم، وإما لكتابته على نفسه، كقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وقوله: (ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا).
وأما قوله: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]، فهذا مختص بالكفار. وهو الوعيد المتضمن الجزاء على الأعمال، كما قال تعالى لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85].
وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه: 129] أي: إن عذابهم له أجل مسمى، إما يوم القيامة، وإما في الدنيا كيوم بدر، وإما عقب الموت ـ وقد ذكر في الآية الأقوال الثلاثة. فلولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لكان العذاب لزامًا، أي: لازمًا لهم. فإن المقتضي له قائم تام، وهو كفرهم.
/ وأما إذا أطلق القول على الكفار من غير تقييد، فإنه لايريد من لا يؤمن منهم. فإن اللفظ لايدل على ذلك البتة.
وأيضًا، فإن هذا لا فائدة فيه، إذ كان أولئك غير معروفين، وإنما هم طائفة قد حق عليهم القول، وهم لايتميزون من غيرهم. بل هو مأمور بإنذار الجميع، وفيهم من يؤمن ومن لا يؤمن. فذكر اللفظ العام - وإرادة أولئك دون غيرهم ـ ليس فيه بيان للمراد الخاص. وذكر المعني الذي أوجب أنهم لا يؤمنون قط، ولا فيه تعليق الحكم بالمعني العام. وكلام الله ـ تعالى ـ يصان عن مثل ذلك.
وما ذكر من الموانع هي موجودة في كل من لم يقبل الإنذار، سواء كان كافرًا، أو منافقًا أو فاسقًا أو غير ذلك، لسبب يوجب ذلك، فيمتنع قبول الإنذار بسبب الموانع. ولكن هذه الموانع قد تزول، فإنها ليست لازمة لكل كافر.
وإذا كان المانع ما سبق من القول الذي حق عليهم فقد لا يزول أبدًا، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 96، 97].
وقد يذكر هذا وهذا.
/ وأمـا إذا اقتصر على ذكـر الموانـع التي فيهم، ولم يذكر مـا سـبق من القول، فهذه الموانع يرجى زوالها ويمكن، ما لم يذكر معها ما يقتضى امتناع تغير حالهم وحصول الهدى.
فصــل
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} جــاء الخطاب فيـها بـ [مــا]، ولــم يجـــئ بـ [من]، فقيل: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} لم يقل: [لا أعبد من تعبدون]؛ لأن [من] لمن يعلم، والأصنام لا تعلم.
وهذا القول ضعيف جدًا، فإن معبود المشركين يدخل فيه من يعلم كالملائكة والأنبياء والجن والإنس، ومن لم يعلم. وعند الاجتماع تغلب صيغة أولى العلم، كما في قوله: {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور:45].
فإذا أخبر عنهم بحال من يعلم عبر عنهم بعبادته، كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} الآية [الأعراف:194، 195]، فعبر عنهم بضمير الجمع المذكر.وهو لأولى العلم. / وأما ما لا يعلم فجمعه مؤنث،كما تقول:الأموال جمعتها والحجارة قذفتها.
فـ [ما] هي لما لا يعلم، ولصفات من يعلم. ولهذا تكون للجنس العام؛ لأن شمول الجنس لما تحته هو باعتبار صفاته، كما قال: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء: 3]، أي: الذي طاب، والطيب من النساء. فلما قصد الإخبار عن الموصوف بالطيب، وقصد هذه الصفة دون مجرد العين، عبر بـ [ما].
ولو عبر بـ [من]، كان المقصود مجرد العين والصفة للتعريف ، حتى لو فقدت لكانت غير مقصودة، كما إذا قلت: جاءنى من يعرف ، ومن كان أمس في المسجد، ومن فعل كذا، ونحو ذلك. فالمقصود الإخبار عن عينه، والصلة للتعريف وإن كانت تلك الصفة قد ذهبت.
ومنه قوله: {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 5 - 7]. على القول الصحيح إنها اسم موصول، والمعني: وبانيها، وطاحيها، ومسويها. ولما قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10]، أخبر بـ [من]؛ لأن المقصود الإخبار عن فلاح عينه وإن كان فعله للتزكية والتدسية قد ذهب في الدنيا.
فالقسم هناك بالموصوف، بحيث أنه إنما أقسم بهذا الموصوف والصفة / لازمة. فإنه لا توجد مبنية إلا ببانيها، ولا مطحية إلا بطاحيها، ولا مسواة إلا بمسويها. وأما المرء المزكى نفسه والمدسيها، فقد انقضى عمله في الدنيا، وفلاحه وخيبته في الآخرة ليسا مستلزمًا لذلك العمل.
ونحو هذا قوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} [الليل: 3].
ولهذا يستفهم بها عن صفات من يعلم في قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، كما يستفهم ـ على وجه ـ بها في قوله {مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 85].
وأما قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]. فالاستفهام عن عين الخالق للتمييز بينه وبين الآلهة التي تعبد. فإن المستفهمين بها كانوا مقرين بصفة الخالق، وإنما طلب بالاستفهام تعيينه وتمييزه، ولتقام عليهم الحجة باستحقاقه وحده العبادة.
وأما فرعون، فكان منكرًا للموصوف المسمى، فاستفهم بصيغة [ما]؛ لأنه لم يكن مقرًا به، طالبًا لتعيينه؛ ولهذا كان الجواب في هذا الاستفهام بقول موسى: {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرعد: 16، الإسراء: 102]، وبقوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26]، فأجاب ـ أيضًا ـ بالصفة. وهناك قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، فكان الجواب بالاسم المميز للمسمى عن غيره. وكذلك قوله: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا} [المؤمنون: 84] إلى تمام الآيات.
/ فقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ، يقتضى تنزيهه عن كل موصوف بأنه معبودهم؛ لأن كل ما عبده الكافر وجبت البراءة منه؛ لأن كل من كان كافرًا،لا يكون معبوده الإله الذي يعبده المؤمن. إذ لو كان هو معبوده لكان مؤمنًا، لا كافرًا.وذلك يتضمن أمورًا:
أحدها: أن ذلك يستلزم براءته من أعيان من يعبدونهم من دون الله.
الثاني: أنهم إذا عبدوا الله وغيره فمعبودهم المجموع، وهو لا يعبد المجموع ـ لايعبد إلا الله وحده. فيعبده على وجه إخلاص الدين له، لا على وجه الشرك بينه وبين غيره.
وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين قول الخليل: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26، 27]. وقوله: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، بأن يقال: هنا نفي عبادة المجموع، وذلك لا ينفي عبادة الواحد الذي هو الله. والخليل تبرأ من المجموع، وذلك يقتضى البراءة من كل واحد، فاستثنى. أو يقال: الخليل تبرأ من جميع المعبودين ـ من الجميع ـ فوجب أن يستثنى رب العالمين. ولهذا لما وقع مستثنى في أول الكلام في قوله: / {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: 4] لم يحتج إلى استثناء آخر.
وأما هذه السورة فإن فيها التبري من عبادة ما يعبدون، لا من نفس ما يعبدون. وهو برىء منهم، ومن عبادتهم، ومما يعبدون. فإن ذلك كله باطل، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله: [أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه غيرى فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك].
فعبادة المشرك كلها باطلة، لا يقال: نصيب الله منها حق، والباقى باطل، بخلاف معبودهم. فإن الله إله حق، وماسواه آلهة باطلة.
فلما تبرأ الخليل من المعبودين احتاج إلى استثناء رب العالمين. ولما كان في هذه تبرؤه من أن يعبد ما يعبدون،فكان المنفي هو العبادة، تبرأ من عبادة المجموع الذين يعبدهم الكافرون.
الثالث: إن كان النفي عن الموصوف بأنه معبودهم، لا عن عينه، فهو لايعبد شيئًا من حيث هو معبودهم؛ لأنه من حيث هو معبودهم هم مشركون به، فوجبت البراءة من عبادته على ذلك الوجه. ولو قال: [من تعبدون]، لكان يقال: إلا رب العالمين؛ لأن النفي واقع على / عين المعبود. وليس إذا لم يعبد ما يعبدون متبرئًا منه ومعاديًا له حتى يحتاج إلى الاستثناء، بل هو تارك لعبادة ما يعبدون.
وهذا يتبين بالوجه الرابع: وهو قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، نفي عنهم عبادة معبوده. فهم إذا عبدوا الله مشركين به لم يكونوا عابدين معبوده. وكذلك هو إذا عبده مخلصًا له الدين لم يكن عابدًا معبودهم.
الوجه الخامس: أنهم لو عينوا الله بما ليس هو الله، وقصدوا عبادة الله، معتقدين أن هذا هو الله، كالذين عبدوا العجل، والذين عبدوا المسيح، والذين يعبدون الدجال، والذين يعبدون ما يعبدون من دنياهم وهواهم، ومن عبد من هذه الأمة، فهم عند نفوسهم إنما يعبدون الله، لكن هذا المعبود الذي لهم ليس هو الله.
فإذا قال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، كان متبرئًا من هؤلاء المعبودين وإن كان مقصود العابدين هو الله.
الوجه السادس: أنهم إذا وصفوا الله بما هو برىء منه، كالصاحبة والولد، والشريك، وأنه فقير أو بخيل، أوغير ذلك، وعبدوه كذلك، فهو برىء من المعبود الذي لهؤلاء. فإن هذا ليس هو الله / كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا ترون كيف يصرف الله عني سب قريش؟ يسبون مُذَمَّما وأنا محمد). فهم وإن قصدوا عينه لكن لما وصفوه بأنه مذمم كان سبهم واقعًا على من هو مذمم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وذاك ليس هو الله.
فالمؤمنون برآء مما يعبد هؤلاء.
الوجه السابع: أن كل من لم يؤمن بما وصف به الرسول ربه فهو في الحقيقة لم يعبد ما عبده الرسول من تلك الجهة.
وقس على هذا، فلتتأمل هذه المعانى، وتلخص وتهذب، والله - تعالى - أعلم.
/ سُوَرة تَبَّت
قال شيخ الإسلام ـ قدسَ الله روحه:
سورة [تبت] نزلت في هذا وامرأته، وهما من أشرف بطنين في قريش، وهو عم علي، وهي عمة معاوية، واللذان تداولا الخلافة في الأمة هذان البطنان: بنو أمية، وبنو هاشم، وأما أبو بكر وعمر فمن قبيلتين أبعد عنه صلى الله عليه وسلم واتفق في عهدهما ما لم يتفق بعدهما.
وليس في القرآن ذم من كفر به صلى الله عليه وسلم باسمه إلا هذا وامرأته، ففيه أن الأنساب لا عبرة بها، بل صاحب الشرف يكون ذمه على تخلفه عن الواجب أعظم. كما قال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ} الآية [الأحزاب: 30].
قال النَّحاس: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1]، دعاء عليه بالخسر. وفي قراءة عبد الله: [وقد تب]. وقوله: {وَمَا كَسَبَ}، أي: ولده. فإن قوله: / {وَمَا كَسَبَ}، يتناوله، كما في الحديث ولده من كسبه. واستدل بها على جواز الأكل من مال الولد. ثم أخبر أنه: {سَيَصْلَى نَارًا} [المسد: 3] أخبر بزوال الخير، وحصول الشر، و[الصلي] الدخول والاحتراق جميعا. وقوله: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] أن كان مثلا للنميمة؛ لأنها تضرم الشر، فيكون حطب القلوب، وقد يقال: ذنبها أعظم، وحمل النميمة لايوصف بالحبل في الجيد، وإن كان وصفا لحالها في الآخرة، كما وصف بعلها وهو يصلي، وهي تحمل الحطب عليه، كما أعانته على الكفر، فيكون من حشر الأزواج، وفيه عبرة لكل متعاونين على الإثم، أو على إثم ما، أو عدوان ما.
ويكون القرآن قد عمم الأقسام الممكنة في الزوجين، وهي أربعة إما كإبراهيم وامرأته، وإما هذا وامرأته، وإما فرعون وامرأته، وإما نوح وامرأته، ولوط. ويستقيم أن يفسر حمل الحطب بالنميمة بحمل الوقود في الآخرة. كقوله: [من كان له لسانان] إلخ. والله أعلم.